أزمة المدرسة العمومية..إلى متى؟

أزمة المدرسة العمومية..إلى متى؟

A- A+
  • مع حلول كل دخول مدرسي، تتجدد الأسئلة نفسها حول أزمة المنظومة التعليمية المغربية، وكأننا ندور في دائرة مغلقة لا نهاية لها. تتغير الشعارات، تتبدل البرامج، وتتعاقب المخططات، لكن صورة المدرسة العمومية تظل حبيسة مأساة بنيوية عميقة، تُعرّي أكثر من أي وقت مضى هشاشة الرهان الوطني على المعرفة، وغياب رؤية استراتيجية تجعل التعليم قاعدة حقيقية للعدالة الاجتماعية وصناعة المستقبل.
    يتعامل الإعلام الرسمي كل عام مع الدخول المدرسي كما لو كان احتفالية وطنية، صور لأقسام ملونة، ابتسامات مصطنعة على وجوه أطفال بالكاد يجدون مقعدًا خشبيًا لا يتسع لهم، وتصريحات متكررة حول «تأهيل المدرسة» و«تحسين جودة التعلم»، و«مدارس الريادة».. لكن خلف هذه الصورة الملمّعة، ثمة واقع آخر أكثر قسوة:
أقسام مكتظة تتجاوز أحيانًا 50 تلميذًا في فضاءات ضيقة خانقة. مؤسسات تعليمية بلا تجهيزات أساسية، بلا ماء ولا مراحيض فبالأحرى الحديث عن المكتبات، المختبرات، وحياة مدرسية. تليق بأجواء تعليم محط رهانات للتنمية والتقدم.
    مدرسون في معظمهم يفتقدون التكوين الملائم لأداء رسالتهم التربوية، مثقلون بالمهام الإدارية والبيروقراطية، يعملون في شروط لا تليق بمقام من يُفترض أن يكون صانع الأجيال. وأطفال يقطعون كيلومترات على الأقدام للوصول إلى مدارسهم في القرى النائية، بينما يتحدث الخطاب الرسمي عن «تكافؤ الفرص» و«مدرسة الإنصاف».
أزمة المدرسة العمومية ليست مجرد خلل تربوي أو تقني، بل هي انعكاس مباشر لاختلالات أعمق في البنية الاجتماعية والسياسية. ففي المجتمعات التي تراهن على المستقبل، تُعتبر المدرسة فضاءً استراتيجيًا لتكريس المساواة وصناعة رأس المال البشري. أما في المغرب، فقد تحولت المدرسة العمومية تدريجيًا إلى ما يشبه «مخزنًا كبيرًا للفشل»، والدليل على ذلك: تفشي الأمية الوظيفية حيث يعجز ملايين التلاميذ عن فهم نص بسيط بعد سنوات من التمدرس. تزايد كارثي لمعدلات الانقطاع عن الدراسة والهدر المدرسي، خصوصًا في العالم القروي والهوامش الحضرية. تعميق الفوارق الطبقية عبر تآكل المدرسة العمومية وازدهار القطاع الخاص التعليمي، حيث أصبح حق التعلم الجيد مرهونًا بالقدرة الشرائية للأسر.
لم تعد المدرسة العمومية فضاءً للارتقاء الاجتماعي كما كانت في عقود مضت، بل أضحت عاملًا لإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية، في مجتمع يُفترض أنه يسعى إلى تقليصها.
    فالمدرسة التي كان يُنظر إليها تاريخيًا كحق جماعي ورافعة لبناء المغرب الحديث، صارت تُدار بمنطق السوق، وهو ما أدى إلى إضعاف القيم التشاركية التي كانت المدرسة العمومية تنتجها وتفريغ الفعل التربوي من أبعاده الإنسانية والثقافية.
إننا أمام مشهد تتآكل فيه المدرسة العمومية من الداخل، بينما يُعاد إنتاج نموذج طبقي جديد، تُصبح فيه المدرسة الخاصة بوابة الامتياز والمدرسة العمومية رهانًا على الحظ.
    أمام هذه المأساة المركبة، لا يكفي مجرد رفع شعارات «تجويد العرض المدرسي» أو «إطلاق المخططات الإصلاحية»، وعقد الندوات في المراكز والمدن، لأن ما نحتاجه اليوم هو ثورة في الخيال الجماعي تعيد للمدرسة مكانتها كفضاء مشترك وتستعيد الثقة المفقودة في المدرسة العمومية. وإعادة تعريف وظيفة المدرسة كفضاء لصناعة مواطن حر وفاعل. وتأهيل الموارد البشرية والبنية التحتية بما يتجاوز الحلول الترقيعية.
فإذا لم نمتلك الشجاعة لمواجهة الحقائق وتبني مشروع جماعي حقيقي يعيد الاعتبار للتعليم العمومي كقضية وطنية، فإننا سنواصل الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها، حيث يُدفن الحلم عامًا بعد عام 
على أبواب المدارس.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الذكرى الـ50 للمسيرة الخضراء..صاحب الجلالة الملك محمد السادس “قائد إصلاحي كبير”