بوح الأحد: فرنسا تدخل نفق نهاية الجمهورية الخامسة، و نموذجها لم يعد مغريا

بوح الأحد: فرنسا تدخل نفق نهاية الجمهورية الخامسة، و نموذجها لم يعد مغريا

A- A+
  • بوح الأحد: فرنسا تدخل نفق نهاية الجمهورية الخامسة، و نموذجها لم يعد مغريا، الأيام تنصف المغرب بعد أن استبق الأحداث بتنويع شراكاته و بحث لنفسه عن نموذج تنموي خاص به و أشياء أخرى …

    أبو وائل الريفي
    أستأذنكم أن نخصص بوحنا هذا الأسبوع لاستشراف مغرب الغد الذي يصنع اليوم بعقول وسواعد وعزائم وإرادات المغاربة. نفتح من خلال هذا البوح نافذة حتى نرى بوضوح ما نحن عليه دون تجميل أو تقبيح حتى يتأكد لمن يريد تبخيس ما نحن عليه أنه ضال مضلل ومتحامل وحاقد.
    لم يستوعب الطوابرية إلى اليوم أن مغرب المستقبل هو مغرب الشباب وهؤلاء يفكرون بمنطق مختلف، وينفتحون بتوازن على العالم الذي يرون فيه مكاسب تدفعهم نحو زيادة الطلب على المواطنة بمواصفاتها العالمية، وفي الآن نفسه يرون فيه مخاطر تهدد بشكل وجودي بعض الأمم التي ظل ينظر إليها حتى وقت قريب أنها من القوى العظمى، فكيف الحال بغيرها.
    سأخصص هذا البوح، بمناسبة الدخول السياسي، لقضايا ذات بعد استراتيجي ومصيري يلزم أن نكون على وعي بها نحن المغاربة إن أردنا أن يكون لنا مكان تحت شمس هذا العالم الذي يعرف تحولات لن ترحم من لم يستوعبها ويتأقلم معها ويتغلب على إكراهاتها ويعمل بجهد ليكون فاعلا فيها وإلا أصبح مادتها وموضوعها.
    اخترت النموذج الفرنسي لنتأمل فيما يعيشه من مصاعب لاعتبارات لا تغيب عن قراء البوح. فالجميع يتابع أخبار هذا البلد الذي تربطنا به علاقات تجعل متابعة مستجداته ضرورية، وتسعفنا في ذلك اللغة والقرب والماضي المشترك والتعود والمحاكاة، وجلنا يعايش هذه التجربة التي شكلت دوما مصدر إلهام للكثير من النخب.
    عاشت فرنسا هذه الأيام ما يشبه الزلزال الذي زعزع ثقة فئات من الفرنسيين في نموذجهم الذي أبدعوه بعد الحرب العالمية. لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة يتقدم الوزير الأول أمام الجمعية الوطنية بخطاب صريح ومرقم وغير منمق تابعه الفرنسيون باهتمام بالغ وصدمة كبيرة. كانت نهاية تداول الجمعية الوطنية التصويت بحجب الثقة عن حكومة سياسي مخضرم يشكل قلة ممن تبقى من النخبة القديمة التي لم تستوعب بعد أنها صارت غريبة على المشهد كله.
    سمى البعض ما حدث بالسقوط، وآخرون بالنهاية، وتعددت العناوين، ولكن الواضح أن الأمر يتجاوز مجرد حجب ثقة عن حكومة، والخشية أن يكون ما حدث انهيار نظام وفشل نموذج قد يقود إلى سقوط دولة أو تراجعها أكثر مما هي عليه من تراجع. وبذلك سيتأكد ما يقوله المتابعون المتخصصون للشأن الفرنسي، وهو أن التراجع الدولي لفرنسا سببه أساسا مشاكلها الداخلية وليس فقط التحولات الدولية.
    لقد وضع نموذج الجمهورية الخامسة في سياقات خاصة، وكان ضامن نجاحه نخبة خاصة نسجت خيوطه وفق قاعدة التساكن لتحقيق توازن السلط وتعاونها في الآن نفسه. واليوم أصبحت هذه الضمانة مفقودة، فمقعد رئاسة الجمهورية أصبح كبيرا على الكثير من الرؤساء المتعاقبين، ومنطق العقلنة البرلمانية صار يختزل في تحكم السلطة التنفيذية في أكثر من مرة في إرادة المشرعين، والمشهد الحزبي لم يعد قادرا على فرز تقاطبات ثنائية كما اعتاد الفرنسيون، والعمل الحزبي يعيش حالة عقم، بل صار المشهد هجينا، ومن السهل دغدغة عواطف الناخبين بخطاب شعبوي يميل يمينا نحو الاختزال ليصور كل مشاكل الدولة في قضايا الهجرة، أو ينحرف يسارا نحو التسطيح الذي يتجاهل عمق المشاكل البنيوية التي تتطلب أحيانا حلولا مؤلمة تستدعي من الجميع التضحية من أجل الحفاظ على مكانة الدولة عوض تغليب سياسوية لا ترى سوى المعارك الانتخابية.
    الصحافي الشهير آلان دوهامل Alain Duhamel صاحب الإصدارات المهمة حول النظام الفرنسي كررها في أكثر من مناسبة دون أن تجد كلماته صدى عند النخبة الفرنسية. قال بأن فرنسا تعيش أزمة نظام وأزمة مجتمع في آن واحد، وأن هذه الأزمة صارت ممنهجة، ونبه إلى أن الوضع في فرنسا خطير وعلى نحو غير مسبوق وأسوأ مما كانت عليه الأزمة سنة 1958التي وضعت حدا للجمهورية الرابعة ذات الطبيعة البرلمانية.
    لن نقول جديدا إن نحن أقررنا أن فرنسا في حاجة إلى ميلاد جمهورية سادسة على أسس متلائمة مع التحولات التي عرفها المجتمع والنخبة معا ليكون النظام متلائما مع المحكومين ومنسجما مع طبيعة النخبة الحاكمة. هل تفتقد فرنسا للرئيس الزعيم ذي الكاريزما التي كانت لديكول أو ميتران أو شيراك أو غيرهم؟ هل هي في حاجة لأحزاب عقائدية إيديولوجيا كما كانت دائما أم يلزم نظامها التأقلم مع حالة التهجين التي عرفها المشهد الحزبي؟ هل للإعلام دور في هذه الأزمة لأنه انحرف كثيرا عن مهنيته وحياده ودوره الرقابي؟ هل لحالة الانكماش دور في هذه الأوضاع، ولا سيما في ظل انسحاب فرنسا من دول عدة تحت وابل من النقد والاتهام والفضائح؟ وقد تكون كل هذه أسباب تتفاوت نسب حضورها ولكن الأهم أنها تفضي إلى جعل فرنسا اليوم في وضع “الرجل المريض”.
    يتذكر قراء هذا البوح بعض مواضيعه التي خصصت لفرنسا الماكرونية. كثيرا ما حذرنا من أن فرنسا في حاجة إلى زعيم يشكل عنصر التجميع والتأليف بروحه الوطنية كما كان ديكول في بداية الجمهورية الخامسة. حذرنا في تلك المواضيع كثيرا من انهيار متدرج بوتيرة متسارعة للنموذج الفرنسي. حينها كانت العلاقة بين المغرب وفرنسا تعيش فتورا، حتى لا نقول شيئا أقسى من حالة الفتور، والحمد لله أن كثيرين تعاطوا مع هذا الأمر بجدية.
    البقاء في أسر فرنسا ونموذجها المتهالك حماقة، وتجاهل نقاط قوتها حماقة أخرى، ولذلك كان على المغرب تنويع شراكاته وتوسيع دائرة علاقاته دون إضرار بعلاقاته وروابطه مع فرنسا، وهذا ما نجح فيه المغرب الذي يستلهم من نماذج ناجحة دون التقوقع في استنساخها، بل صهرها في قالب مغربي يراعي خصوصية المغرب. نتذكر في هذا الصدد إشارات جلالة الملك في أكثر من ورش من الأوراش الكبرى للمملكة وهو يؤكد على إسباغ الطابع المغربي على مخرجات أي مشروع.
    في ورش الجهوية المتقدمة أكد الملك على “نموذج مغربي – مغربي للجهوية نابع من خصوصيات بلدنا. وفي صدارتها انفراد الملكية المغربية بكونها من أعرق الملكيات في العالم”. لم يكن هذا التوجيه مجرد رغبة في “المغربة من أجل المغربة”، ولكنها كانت في العمق دعوة إلى استحضار عراقة الدولة المغربية وخصوصياتها كقاعدة لأي تحول في أدوار الدولة، ودعوة لوضع حد للنموذج اليعقوبي المتوارث من الحماية الفرنسية.

  • في الكثير من الأوراش كان الملك يدعو لنفس المقاربة، واتضحت أكثر في الدستور الذي برزت فيه خصوصية ظلت عامل تقوية للدولة والمؤسسات. وكالعادة لم يفهم الكثير من “النقالة” و”النساخ” تلك التركيبة الهندسية التي أفرزتها المشاورات وصدق عليها المغاربة وتثبت أنها نقلت البناء الدستوري المغربي إلى مصاف الدول المستقرة التي تؤسس لنموذج إبداعي في العلاقة بين السلط.
    حديثي في هذا البوح موجه إلى أبناء الماما فرنسا الذين يرون فيها النموذج الناجح الذي علينا اتباعه، ويستقوون بها علينا هنا في المغرب. بايرو قالها صريحة وهو يدلي بحقيقة أن فرنسا منذ عام 2000 تنتج أقل من جيرانها، سواء ألمانيا أو هولندا أو بلجيكا، رغم كل المجهودات التي بذلتها سواء في مجال إنشاء المقاولات أو التشغيل أو الاستثمار، ولذلك أكد على أن الإنتاج يجب أن يمثل مهمة استعجالية وطنية، ولم يفته أن ينبه إلى مشكل النظام التعليمي حيث كانت المدرسة والجامعة الفرنسية في السابق نماذج يُحتذى بها على مستوى العالم، ولكنها تراجعت بشكل يدعو للقلق، والمشكل الأكبر يتمثل فيما يتعلق بالنموذج الاجتماعي الذي أُبدع قبل 80 عاماً بإلهام من المجلس الوطني للمقاومة، والذي يعاني اليوم من عجز خطير، وزعزعة نتيجة الخلل الديمغرافي، وشيخوخة الفرنسيين، واختلال نظام التقاعد.
    صورة قاتمة قدمها بايرو في كل المجالات، ومستقبل ضبابي ينتظر الأجيال القادمة، ونظام سياسي سيدخل قريبا في صنف النظم غير المستقرة لينافس النموذج الإيطالي بعد أن كان نموذجا في التعايش، فقد صرنا أمام رقم قياسي غير مسبوق بعد تعيين وزير أول خامس خلل فترة ثلاث سنوات فقط.
    والأخطر هو مشكل المديونية الذي يضيق هامش الحركة على الدولة ويفرض عليها الانكماش والتقوقع وخاصة في ظل وجود ترامب الذي يفرض على شركائه الأوربيين، وفرنسا أكثر المستهدفين، تقاسم الأعباء في كل ما يتعلق بالحلف الأطلسي وغيره. لقد وصلت المديونية 3 تريليونات و345.8 مليار يورو نهاية الربع الأول من هذا العام حسب المعهد الوطني للإحصاء الذي أشار أن الزيادة بلغت 40.5 مليار يورو مقارنة بنهاية العام الماضي.
    الملاحظ أن النخبة الفرنسية تتفرج على هذا الوضع ولا وجود لحلول مقترحة على الطاولة، والانتخابات لا تفرز إلا مشهدا مبلقنا يعزز الانقسام أو ينحو نحو انتصار بات وشيكا لأقصى اليمين الذي لن تقود سياساته إلا إلى توتر جيلي وإثني وترابي بين الفرنسيين. والأخطر أن الانقسام طال المجتمع وصارت مؤسسات الدولة غير قادرة على احتضان الاختلاف الذي أصبح يتجسد في الاحتجاجات بالشارع وكثرة الإضرابات وتعطيل المرافق العمومية، وهي كلها تعود بالسلب على قوة ومكانة فرنسا.
    من الممكن أن أسترسل أكثر في سرد حقائق خطاب بايرو ومشاكل فرنسا ولكن مساحة البوح والهدف منه لا يسمحان بذلك.
    بيت القصيد هو أن المغرب أحسن صنعا منذ مدة طويلة وهو ينفتح على تجارب أخرى ويوسع دائرة شراكاته ويتجه غربا وشرقا. أحسن المغرب صنعا حين تشبث باستقلاليته وسيادته لفرض العلاقة التشاركية المتكافئة مع فرنسا بما يؤكد حرصه على استمرارها ولكن وفق ضوابط التكافؤ والندية.
    في أكثر من مناسبة، نبه المغرب إلى أن المنطق الكولونيالي ولى إلى غير رجعة، ومنطق الوصاية مرفوض، وأساليب الضغط والابتزاز لم تعد ذات جدوى. بل إن المغرب في مرات عديدة أوقف “البيضة في الطاس” حين لم تستوعب جهات في فرنسا هذه الحقائق، ولكن يحسب للمغرب أنه ظل دائما وفيا لالتزاماته ومادا يديه لعلاقة دائمة مع فرنسا إن هي أقرت بهذا الواقع. نتذكر جميعا رد فعل المغرب على عرض ماكرون المساعدة بعد الزلزال بالتوجه مباشرة عبر الإعلام للمغاربة. لم تأت فرنسا البيت من بابه – وهو صاحب الجلالة- فرفض المغرب ملكا وحكومة وشعبا ونخبا هذا الأسلوب الاستعلائي وكان الرد العملي هو وجود بدائل كثيرة لأن للمغرب شركاء من مختلف القارات كانوا على أتم الاستعداد للمساعدة بدون بهرجة وفي احترام لقواعد الشراكة المتكافئة.
    نتذكر عام 2014 الذي ساهمت فيه تصرفات متهورة من فرنسا في شرخ أصاب العلاقة مع المغرب. حينها وقف المغرب كله وقفة موحدة كانت نتيجتها تخلي فرنسا عن تعنتها واستقالة وزيرة العدل، ولا يخفى على أحد خطوات جبر هذا الكسر التي قامت بها فرنسا لإعادة العلاقة إلى ما كانت عليه.
    في المقابل، ورغم كل تلك الأخطاء الفرنسية ظل المغرب وفيا لالتزاماته، حريصا على نجاح فرنسا واستقرار نظامها وأمن الفرنسيين وقدم من أجل ذلك خدمات ساهمت في تفكيك الخلايا الإرهابية وإحباط مخططات إرهابية وضبط هاربين من العدالة، بل إنه ساهم بقسط وافر في تأمين أولمبياد باريس الذي ساهم نجاحه في إعادة بعض من المكانة لفرنسا ورد الاعتبار للفرنسيين الذين استعاد الكثير منهم بعض الثقة في الدولة، وهو ما شهدت به مؤخرا المديرة العامة للأمن الداخلي الفرنسي سيلين بيرتون أثناء استقبالها بالمغرب من طرف عبد اللطيف حموشي، ومعها وفد أمني رفيع المستوى، حيث أشادت بمساهمة مصالح الأمن المغربية في تأمين الألعاب الأولمبية الصيفية التي احتضنتها باريس في سنة 2024 على هامش المباحثات الثنائية بين الطرفين خلال هذا الاستقبال الذي تم في ظرفية يعلم الجميع حساسيتها بالنسبة للجانب الفرنسي، ولذلك كان التركيز على سبل تطوير آليات التعاون الثنائي في المجال الأمني، وتعزيز الشراكة بين البلدين لمواجهة التحديات الأمنية القائمة التي يفرضها المحيط الدولي والإقليمي، لاسيما المخاطر الإرهابية في مناطق التوتر عموما، ومنطقة الساحل والصحراء على وجه التحديد، وضرورة تدعيم العمليات الأمنية المشتركة بين مصالح الأمن الداخلي المغربية ونظيرتها الفرنسية، باعتبارها أثبتت في عدة مناسبات فعاليتها في تحييد جملة من التهديدات الإرهابية على المستويين الإقليمي والدولي، وتدعيم آليات التعاون الثنائي بين مصالح الأمن الداخلي في كل من المغرب وفرنسا لمواجهة مختلف الأعمال العدائية التي تهدد أمن البلدين، بما فيها مكافحة أعمال التجسس الخارجي والأنشطة المرتبطة به، وسبل التنسيق وتدعيم الجهود المشتركة للمساهمة في نجاح فعاليات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم 2025 التي سيحتضنها المغرب، وتنظيم كأس العالم 2030 الذي ستحتضنه بشكل مشترك دول المغرب وإسبانيا والبرتغال، خصوصا فيما يتعلق بتبادل الخبرات والمعطيات العملياتية حول مواجهة المخاطر الكبرى التي تحدق بالأمن العام.
    تلكؤ فرنسا في إحقاق الحق بخصوص قضية الصحراء المغربية قصة أخرى من المناورات التي دامت عقودا كانت باريس تفضل فيها دائما اللعب على الحبلين رغم أنها أدرى من غيرها من الأعضاء الخمسة في مجلس الأمن بحقيقة هذا الصراع المفتعل وأحقية المغرب في المطالبة باستكمال وحدته الترابية ومجهوده الكبير في بلورة حل يحفظ للكل اعتبارهم. لم تمر مدة حتى صار المغرب لا يتساهل مع فرنسا في ترددها، وعبر عن ذلك الملك في أكثر من مناسبة بالتلميح الذي لا يفصله عن التصريح سوى الشعرة التي يستحسن أن لا تقطع. وفي النهاية فهمت فرنسا خطأها وساهم ضغط الفرنسيين في الاعتراف الرسمي بمغربية الصحراء بعد اكتشافهم أن الجزائر شريك غير موثوق.
    قضايا كثيرة ومناسبات متعددة يفهم منها أن المغرب استوعب مبكرا ما يحدث من تحولات ووضع العلاقة مع النموذج الفرنسي في إطارها الحقيقي وحدد لها حجمها الطبيعي دون ضرر أو ضرار.
    قد تتعدد الحملات من جهات في فرنسا ضد المغرب لأنها ما تزال متحجرة على أفكار ماضوية تنهل من الكولونيالية البائدة، وقد تتكرر هجمات الأذرع الدعائية تحت غطاء حقوقي أو إعلامي أو بحثي ظنا أن زمن لي الذراع والإحراج أمام الشعب قد يجعل الحكام يتراجعون، وما على هؤلاء جميعا إلا استيعاب درس المبتزين إريك لوران وكاترين غراسييه. محركو هذه الحملات معروفون، ولن تنال من الرأي العام المغربي الذي فهم هذه اللعبة التي ألفها منذ نصف قرن وصار يمجها ويمقتها.
    قد يكون من الخطأ عقد مقارنات بين المغرب وفرنسا، فإمكانيات فرنسا لا تقارن بالمغرب، ولكن المؤكد أن المغرب يشق طريقه وفق إمكانياته وبناء على نموذجه بنجاح. ما أنجز من بنيات تحتية هائل بشهادة كل المعاينين.
    تشييد الطرق وشبكة القطار فائق السرعة التي شرع في توسيع تغطيتها وفك العزلة عن جهات كثيرة كانت مشاريع مهيكلة ناجحة تعطي اليوم ثمارها. هي مناسبة لتذكير من قاموا بحملة شعواء منذ سنوات ضد القطار فائق السرعة الرابط بين البيضاء وطنجة أين هم اليوم؟ هل يمكنهم أن يعيدوا ما كانوا يقدمونه من دفوعات لرفض المشروع وقد اكتشف المغاربة اليوم بكل فئاتهم منافعه في كل المجالات؟
    كالعادة لجأوا إلى الصمت وقد أقاموا الدنيا ضد المشروع الذي يحسب لصانع القرار أنه لم يخضع لتلك الشعبوية المقيتة، ويستفيد المغاربة اليوم من هذا القطار، وأصبح تمديد شبكته مطلبا شعبيا أكثر من أي وقت مضى. وهذا مثال فقط.
    يستكثر بعض “الشعبويين” أن يتوفر المغرب على ملاعب كروية بمواصفات عالمية وكأنها مجرد أماكن للتسلية والترفيه متناسين أن المكانة التي يحتلها المغرب كرويا تجعله قبلة عالمية، وخاصة إن نجحنا في كسب الرهان المونديالي. اليوم تخوض منتخبات إفريقية مبارياتها الرسمية في المغرب، والقادم سيكون أفضل، وحتما ستخرس كل هذه الأصوات كما كان مع التيجيفي.
    المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كانت مشروعا اجتماعيا أنقذ فئات وأدمج أخرى ووفر فرصا، ويمكن أن نتصور لو لم تكن كيف سيكون حال مناطق وفئات من المغرب التي ظلت مغيبة في أجندة نخبة الرباط والبيضاء. لن يحس بنفع هذا الورش إلا مغاربة المناطق المعزولة، بما فيها مناطق كثيرة في المدن الكبرى. هذا مشروع يحسب الفضل فيه للملك الذي كرس له جهدا ووقتا وإمكانيات لإيمانه بالعدالة المجالية واقتناعه أن المواطنة تتطلب المساواة في الحقوق كما في الواجبات.
    هل يمكن الاستهانة بمشروع التغطية الصحية والحماية الاجتماعية والدعم المباشر؟
    تتطلب هذه المشاريع المهيكلة إمكانيات هائلة، والمغرب دولة محدودة الموارد، والظرفية الاقتصادية خلال أزيد من عقد لم تكن مساعدة، ومخلفات سنوات الجفاف كذلك، ومع ذلك وفّى المغرب بالكثير من التعهدات في إتمام أوراش كبرى.
    لقد ذكر الملك في أكثر من مناسبة بأن الرأسمال الحقيقي للمغرب هو عنصره البشري الذي باستطاعته إن وجد الحافز أن يحقق المعجزات، وذكر بأن تدبير القلة هو سبيلنا إلى النجاح مما يتطلب حكامة وشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
    نحن على أبواب دخول سياسي جديد، والاستعدادات مبكرة لانتخابات قادمة، وما على الأحزاب والنقابات والجمعيات إلا استحضار مآل النموذج الفرنسي وتذكر ما تم إنجازه من أوراش وما ينتظره المغاربة من حلول لإبداع برامج وأساليب تمكننا من ربح الرهانات المستقبلية.
    لم يعد الاختباء وراء الملك يجدي نفعا، ولم يعد يقبل من المنتخبين انتظار التعليمات لأن مساحة الفعل الحكومي والترابي واسعة والاختصاصات واضحة والإمكانيات رهن الإشارة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
    موعدنا بوح قادم.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    تأخير ملف المتهمين بتبديد أموال عمومية لإحضار المسؤول السابق لأملاك الدولة