حكمة ملك
يشكل المسار السياسي المغربي خلال العقود الأخيرة انتقالًا هادئًا من منطق الدولة المركزية الصلبة إلى نمط تشاركي في تدبير الشأن العام، تلعب فيه المؤسسة الملكية دور الضامن للثوابت بينما تتقدم الأحزاب السياسية إلى الواجهة بوصفها وسيطا تمثيليا بين الدولة والمجتمع، وقد بدأ هذا التحول بشكل واضح منذ تجربة التناوب التوافقي سنة 1998 التي دشنت لأول مرة في التاريخ السياسي المغربي إشراكًا منظما للمعارضة الوطنية في قيادة الحكومة لا بمنطق اقتسام سلطوي، بل باعتبار ذلك جزءًا من طلب الدولة نفسها للإصلاح السياسي وترتيب البيت الداخلي في أفق العهد الجديد الذي سيعزز لاحقًا بفلسفة دستورية أكثر تقدما سنة 2011 في سياق تحولات إقليمية ودولية حادة فرضت البحث عن صيغ متدرجة للدمقرطة مع الحفاظ على عناصر الاستقرار الاستراتيجي.
لقد أتاح ذلك المسار نوعا من بناء الديمقراطية بالتوافق لا بالصدام، حيث ظلت المؤسسة الملكية تنظر إلى الأحزاب كشركاء في إنتاج السياسات العمومية وصناعة القرار التنموي الذي يشكل دعامة أساسية لمفهوم الشرعية السياسية في المغرب الحديث، ومن ثمرات هذا التحول يمكن اعتبار هيئة الإنصاف والمصالحة لحظة فارقة في وعي الدولة بضرورة الانتقال من منطق الضبط الأمني إلى منطق العدالة الانتقالية بما يسمح بتطبيع العلاقة بين الدولة والمجتمع ويعيد الثقة في المؤسسات مثل إطلاق النموذج التنموي الجديد وفتح مسار نقاش وطني واسع حول مضامينه ومآلاته، آلية إضافية لتعميق البعد التشاركي في إنتاج رؤى استراتيجية للمغرب الجديد كما سطر أسسه جلالة الملك محمد السادس.
في هذا السياق يصبح فهم مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية خارج هذا الإطار التشاركي العام ضربًا من القصور لأن المبادرة المغربية لا تعكس فقط مقاربة دبلوماسية لحل نزاع إقليمي، بل تجسد امتدادا منطقيا لمنحى توزيع السلطة على المستوى الترابي ضمن تصور أوسع للجهوية المتقدمة واللامركزية واللاتمركز، فالحكم الذاتي كما طرحه المغرب سنة 2007 يقوم على منح الساكنة الصحراوية سلطة تدبير شؤونها المحلية عبر مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية منتخبة مع احتفاظ الدولة باختصاصات سيادية في الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية والرموز الجامعة وهو ما يؤسس لحل سياسي عملي يجمع بين الشرعية التاريخية والمرجعية القانونية الدولية وجعل مجلس الأمن يعتبر المبادرة المغربية حلا جديًا وذا مصداقية في قراراته المتعاقبة، والحل المرجعي الوحيد للمشكل المفتعل في الصحراء المغربية.
ينبغي النظر إلى الحكم الذاتي إذن كتطور في مفهوم الوطنية المغربية التي لم تعد مجرد وحدة جغرافية من الأعلى إلى الأسفل بل صارت مشروعا تعاقديًا يدمج الانتماء المحلي والهوية الوطنية في صيغة متكاملة لا تخضع لمعادلة صفرية بين الخصوصية والوحدة الترابية، كما يسمح هذا الطرح بإعادة تصحيح تمثلات الهوية الصحراوية لا بوصفها هامشًا جغرافيًا أو إثنيًا، بل كمكون من مكونات الذات المغربية المتعددة والممتدة في التاريخ والعمران والثقافة، ومن شأن تنزيل الحكم الذاتي أن يفتح مجالًا أوسع لقيادة نخب المنطقة لسياساتهم العمومية المحلية بما يعزز من ملكيتهم للتنمية ويحد من الإحساس بالتهميش أو الاستعمال السياسي للملف على حساب الحاجيات الفعلية للسكان.
إن إشراك الملكية للأحزاب السياسية بخصوص تفاصيل تنزيل الحكم الذاتي، هو إحقاق أن الصحراء هي شأن وطني يهم كافة مكونات الأمة، واستشارة الأحزاب السياسية هو تعميق للبعد الديمقراطي للمؤسسات، ووعي جماعي أن الحكم الذاتي الذي تحول إلى مقترح أممي أكثر من مجرد مشروع مغربي، ليس مجرد حلّ لنزاع سياسي، بل هو جزء من تصور مغربي لبناء ديمقراطية ترابية تشاركية، تُعطي للأقاليم الجنوبية نموذجا متقدّمًا للتدبير الملكي الحكيم لقضايا وحدة التراب الوطني، ويشكل نجاحه نقطة تحول في بنية العلاقات المغاربية التي تعطلت لعقود بسبب النزاع المفتعل حول الصحراء بما أضر بمصالح شعوب المنطقة اقتصاديا واستراتيجيا كما من شأنه أن يحول الأقاليم الجنوبية إلى محور اقتصادي أطلسي إفريقي يربط المغرب بعمقه الإفريقي وبمجالات الأطلس جنوب أوروبا بما يتوافق مع رؤية المملكة في جعل الصحراء فضاءً للتفاعل الاقتصادي الدولي في الطاقة والربط البحري والتجاري، بدل أن تظل منطقة صراع وتوتر.
إن البعد التشاركي الذي رسخته الملكية مع الأحزاب السياسية لاينفصل في جوهره عن هذا الأفق لأن إعادة بناء المشروعية السياسية اليوم لا تقوم فقط على سرديات تاريخية أو رمزية بل على القدرة الجماعية للدولة والمجتمع على إنتاج نموذج تدبيري يزاوج بين الاستقرار والحرية وبين السيادة والوحدة وبين احترام الخصوصيات ودمجها داخل فضاء وطني أوسع.. وبذلك فإن الحكم الذاتي ليس مجرد آلية لتسوية نزاع بل هو لبنة في بناء تصور جديد للدولة المغربية، دولة تفاوضية تشاركية تنقل المركزية من مستوى القرار إلى مستوى الرؤية وتوسع من قاعدة الشرعية عبر انخراط الفاعلين المحليين والجهويين والأحزاب والمؤسسات المنتخبة في صناعة مستقبل مشترك للصحراء وللوطن ككل.