تناقضات خيارات جارنا ” الشقيق” .. ارتباك ودوخة
تناقضات خيارات جارنا ” الشقيق” .. ارتباك ودوخة
في ظل زمن جيوسياسي ملتهب، وبعد سلسلة الهزائم التي منيت بها والتي أدت إلى خفوت صوتها في المواقع الدولية المؤثرة، تبدو الدبلوماسية الجزائرية وكأنها تمشي على حبل مشدود، بين خطاب تقدم نفسها من خلاله كما لو أنها آخر قلاع الممانعة، وبين محاولة التمرن على التكيف مع المصالح البراغماتية للفئة الحاكمة دون امتلاك وعي استراتيجي متماسك، في عالم لم يعد يعترف إلا ببراغماتية باردة.
وتعتبر لحظة المصادقة على القرار الأممي الأخير حول الصحراء أول شرارة تكشف وضع الارتباك الذي تعانيه الدبلوماسية الجزائرية: انسحاب من التصويت وتنديد بطبيعة النص الأممي، ثم عودة وزير الخارجية نفسه بتصريحات تعتبر النص «منصفاً»، ثم تأويلات تُلوى فيها أعناق العبارات كي تُستخرج منها بقايا «تقرير المصير».
بدا الأمر كما لو أنّ الجزائر تُصارع نفسها قبل أن تُصارع مضامين القرار.
يعبر هذا الارتباك عن تحوّل عميق: فالجزائر التي اعتادت أن تُقدم نفسها كصوت الممانعة، وجدت فجأة أن خطاب السبعينيات أكل عليه الدهر وشرب. فالقوى الكبرى تحسم توجهاتها بعيداً عن الحسابات العاطفية، والدول الإقليمية تُعيد رسم خرائط تحالفاتها تحت ضغط المصالح البحتة، بينما بقيت الجزائرـ لسنوات أسيرة معجم سياسي رجعي وضبابية الرؤيا وافتقاد البوصلة كليا.
ولعل أكثر ما يفضح هذا الارتباك هو تلك الحركة المتشنّجة بين «الغياب» و«التبرير»: غيابٌ عن التصويت كي لا تُقال «نعم» ولاتقال «لا»، ثم تبريرٌ مفرط لإقناع الداخل بأنّ شيئاً لم يتغيّر، وأنّ الخط الأحمر القديم ما زال قائماً، وأنّ القرارات الدولية ما زالت تعترف بما تريد الجزائر سماعه. هذا الأسلوب يشي بدبلوماسية تخشى اتخاذ قرارٍ نظيف وواضح ولا يلعب على أكثر من حبل مثل بهلوانيي السرك.
لكن البعد الأكثر كشفاً لطبقات الازدواجية هو الموقف من ملف الصحراء المغربية نفسه. فمن جهة، تُصرّ الجزائر على أن «لا علاقة لها بالنزاع» وأنّ الأمر بين المغرب وبوليساريو، ومن جهة أخرى،
لا تتردّد في الرد على دعوات اليد الممدودة للرباط بإعلان استعدادها للعب دور الوساطة بين المغرب والبوليساريو.
والسؤال هنا ليس سؤالاً سياسياً بل سؤال منطق: هل يمكن أن يكون الوسيط هو نفسه الطرف الذي يحتضن البوليساريو فوق أراضيه، ويموّلها، ويسلّحها، ويُسخّر جزءاً من موارد الشعب الجزائري الهائلة لحماية وجودها واستمرار خطابها؟ كيف لوسيط أن يجلس بين طرفين، وهو في الحقيقة الامتداد العضوي لأحدهما؟.
الوساطة، في الفقه السياسي، لا تكون إلا من طرف ذي مسافة: دولةٌ ليست غارقة في النزاع ولا مربوطة وجودياً بأحد أطرافه. أما أن تُعلن الجزائر أنها ليست طرفاً، ثم تُعلن وساطتها، فذلك يشبه أن يعرض المتخاصم نفسه كقاضٍ وأن يدّعي الحياد وهو متورط في قلب القضية. إنها محاولة لإعادة صياغة صورتها دون إعادة صياغة دورها، محاولة لارتداء ثوب الحكمة بينما السلوك العملي ينتمي إلى معجم الاصطفاف لا معجم الوساطة.
ثم يأتي الملف الفلسطيني ليُعمّق المأزق. فالجزائر، التي اعتادت تقديم نفسها المدافع الصلب عن فلسطين، وجدت نفسها هذه المرة أمام مشروع أمريكي شديد الالتباس، صوّتت لصالحه. هنا أيضاً ظهر التناقض بين هوية معلنة وهوية فعلية: لغة عالية السقف ضد واشنطن، لكن سلوكاً خانعا لمنطق القوّة الكبرى.
حين تتكلّم الدول، بلغة أكبر من قدرتها، تُجبرها الوقائع على العودة إلى حجمها الحقيقي. ليست الجزائر اليوم القوة التي كانت تتخيّلها لنفسها خلال عقود الحرب الباردة، لقد تغيّر وزنها الاقتصادي، واهتزّت بنيتها الداخلية وتراجعت شبكات تحالفاتها، ولم تعد تمتلك الأدوات التي تسمح لها بفرض خطاب يصلح للاستهلاك المحلي لكنه لا يغيّر شيئاً في طاولة القرار الدولي.
وهناك بُعد ثالث يُهمل كثيراً: حسابات النظام نفسه. فالداخل الجزائري يعيش اختناقات سياسية واقتصادية واجتماعية، تجعل القيادة حذرة من أي خطوة تُغضب جزءاً من الرأي العام أو تفقد خطابها الرمزي توازنه. لذلك يتحوّل كل قرار خارجي إلى مخاطرة محسوبة: التخلي عن الخطاب التجييشي مكلف، والتشبث به مكلف أيضاً. فتأتي النتيجة خليطاً غريباً من البراغماتية المموّهة بالشعارات، ومن الخطابات العالية التي تُنقض عملياً في لحظة الاختبار.
أخطر ما يكشفه المشهد هو أن الدبلوماسية الجزائرية لم تعد تمتلك خيطاً ناظماً يربط تحركاتها: فهي لا تريد أن تكون جزءاً من معسكر التطبيع، ولا قادرة على قيادة معسكر الرفض، ولا راغبة في البقاء على الهامش. والنتيجة: مواقف مترددة تبدو كمن يحاول التقدّم خطوة من دون أن يرفع قدمه الأخرى عن الأرض.
العالم كله يتحرّك بسرعة نحو هندسة جديدة للقوة: انكسار الرافعة العربية، صعود صيغ أمنية بديلة، إعادة توزيع النفوذ بين واشنطن وبكين، وانكماش الدور الأوروبي. أمّا الجزائر، فتبدو كمن يتشبّث بخرائط قديمة في بحر يتغيّر ماؤه وحدوده.
الدرس الأعمق ليس أن الجزائر تتجه نحو التطبيع، بل أنّها تتجه نحو لحظة الحقيقة: فإما أن تُعيد تعريف ذاتها بما يناسب مستقبل المنطقة، وتبني دبلوماسية صريحة بلا ازدواجية، وإما أن تستمر في هذا التردد الذي أفقدها تدريجياً ما تبقى من وزنها الرمزي، وجعل صورتها الخارجية امتداداً لأزمتها الداخلية: خطابٌ مرتفع وقرارات انتهازية.