المغرب وكأس إفريقيا: طموح قارة على أرض وطن
المغرب وكأس إفريقيا: طموح قارة على أرض وطن
منذ عقود طويلة والمغرب يُمثل أحد أركان كرة القدم في شمال إفريقيا، ليس فقط عبر إنجازات المنتخب الوطني وأنديته، ولكن عبر الرغبة المستمرة في تحويل الرياضة إلى واجهة حضارية وأداة دبلوماسية ناعمة تعكس صورة بلد منفتح وطموح. ومع الإعلان عن تنظيم كأس أمم إفريقيا 2025 على الأراضي المغربية، يصبح المغرب أمام موعد تاريخي مع الذات ومع القارة: فرصة لإبراز قدراته التنظيمية، الاقتصادية، الثقافية والرياضية، وفرصة لإعادة صياغة علاقة إفريقيا مع كرة القدم كتظاهرة تتجاوز حدود الملاعب إلى آفاق التنمية والصورة الدولية.
لم يدخل المغرب كرة القدم الإفريقية من باب الصدفة، بل من بوابة التألق الميداني والمجد التاريخي. فقد توّج بطلاً للقارة في منتصف السبعينيات، وترك في كل دورة بصمة جماهيرية ونجوماً عالميين ساهموا في ترسيخ صورة المنتخب كأحد أكثر المنتخبات تطورا في العقود الأخيرة.
ورغم أن الألقاب لم تتكرر بالشكل المنتظر، ظل «أسود الأطلس» عنوانًا لطموح متجدد، ومرآة لانتظارات جماهيرية أصبحت ترى في الرياضة هوية وذاكرة وانتماء أمة. وهكذا تحولت البطولة الإفريقية بالنسبة إلى المغرب إلى رمز ثقافي عميق: طموح استعادة مجد قديم، وبناء صورة جديدة لبلد قادر على الجمع بين الأداء الرياضي والتحول الاقتصادي والمؤسساتي.
حين يستضيف المغرب نسخة 2025، فإنه يفعل ذلك بروح التحدي، بوصفه بلدًا مضيفًا، ثم بلدًا مرشحًا لصناعة إنجاز جديد فوق أرضه. تمنح البطولة المنتخب المغربي دفعة معنوية قوية، وتجعل من شغف الجماهير رافعة نفسية مهمة، وتخلق بيئة تنافسية تكون فيها الأرض والجمهور عاملان مؤثران لا يُستهان بهما. كما أن التعاون بين الدولة والجامعة والقطاع الخاص يهدف إلى تأسيس منظومة كروية متطورة.. احتراف يليق بالقرن الجديد، وبنية تدريبية وبشرية قادرة على الاستمرار وبلوغ المنافسة العالمية.
إن تنظيم المغرب لكأس إفريقيا هو مشروع استثماري متكامل. فلا اقتصار على الملاعب وحدها، بل تسريع لمشاريع النقل، الفنادق، الربط الجوي، السياحة والخدمات اللوجستية. وتنتعش المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتتوسع فرص الشغل في قطاعات متعددة، ويتحوّل الحدث إلى محرك اقتصادي في المدن المستضيفة وما بعدها. والمهم أن الاستثمارات التي تُنجز من أجل البطولة لا تُعتبر موسمية، بقدر ما هي بنية تحتية دائمة، ستستمر في خدمة الاقتصاد والسياحة بعد إسدال الستار على آخر مباراة.
إن الرؤية الملكية البعيدة المدى لم تنظر لكرة القدم كمجرد لعبة أو تنافس رياضي، بقدر ما نظرت إليها كأداة قوة ناعمة للمغرب توطد حضوره في إفريقيا وتُعزز رصيده الدبلوماسي. استقبال المنتخبات الإفريقية، الصحافة الدولية، والوفود الرسمية، هو خدمة ثقافية قبل أن يكون مناسبة رياضية، وفرصة لإعادة تقديم المغرب كبلد منفتح وحديث، وقادر على تنظيم تظاهرات كبيرة بمعايير عالمية.
وهنا، تتجاوز البطولة حدود الملاعب نحو خلق جسر إنساني بين الشعوب، وتكريس صورة المغرب كقلب نابض للقارة الإفريقية في زمن يتطلع فيه الجميع إلى الاندماج الاقتصادي والثقافي.
انطلقت منذ الإعلان عن التنظيم الأوراش الكبرى: ملاعب تهيئتها بمعايير عالمية، مدن تتنفس روحًا جديدة في الفضاءات الحضرية، بنية استقبا ل عالية الجودة، وخدمات نقل مبتكرة. ليس الغرض أن تكون النسخة مجرد حدث مكتمل تقنياً، بل حدث يليق بصورة المغرب ويُشبه تنظيم البطولات الكبرى عالميًا. الشراكة بين الجامعة والفاعلين السياحيين تُظهر أن تنظيم كأس إفريقيا ليس حدثًا عابرًا، بل رؤية تنموية متكاملة: رياضة وسياحة واقتصاد وثقافة في مشروع واحد.
على المدى القريب، تُسجل القطاعات الاقتصادية والسياحية حركة غير مسبوقة: امتلاء الفنادق، حركة تنقل داخلية قوية، آلاف فرص العمل، ديناميات تجارية محلية واستثمارات جديدة. أما على المدى البعيد، فتترسخ مشاريع البنية التحتية في المدن، وتتعزز صورة المغرب كوجهة عالمية قادرة على تنظيم أكبر التظاهرات الرياضية، مما يساهم في استقطاب استثمارات مستقبلية ويحول البلد إلى منصة دائمة للفعاليات الدولية.
الحدث الضخم يحمل معه تحديات طبيعية ينبغي التعامل معها بذكاء: الكلفة المالية المرتفعة، حاجيات الصيانة والتدبير الاحترافي للملاعب، التنسيق المؤسساتي المعقد بين القطاعات، وإدارة الحشود والأمن والتنقل. كما أن توقعات الجماهير ستكون كبيرة للغاية، والرهان الرياضي سيكون مضاعفًا فوق أرض الوطن. غير أن المغرب يمتلك خبرة قوية في التنظيم والتأمين وفي إدارة التظاهرات الضخمة، ما يجعل هذه التحديات قابلة للتحول إلى فرص لقفزة نوعية لبلدنا، وكل شيء متوقف على الجمهور المغربي في إخراج أجمل ما لدينا من تعدد وتنوع ثقافي وحضاري، ومن تسامح نبيل لأننا نعكس صورة بلد، مجد أمة وشعب كبير بنبله وبكرمه وبوطنيته.
ينظر المغرب اليوم إلى تجربة احتضان كأس إفريقيا كمنعطف. إنها مناسبة تم فيها تحديث البنى وتوسيع السياحة وتحويل كرة القدم إلى صندوق تنموي ودبلوماسي واقتصادي كبير. إذا أنجحنا جميعا هذه التظاهرة الكروية الكبرى بشكل جماعي كل من موقعه ومسؤولياته، فستكون البطولة أكثر من فرجة منافسة رياضية، بقدر ما ستكون إعلانًا واضحًا على أن المغرب قادر على احتضان أحلام القارة، وتحويلها إلى واقع ينبض بالحياة والإرادة والطموح.