كولمان وخطاب التحريض على العنف ونوبل للسلام
كولمان وخطاب التحريض على العنف ونوبل للسلام
أجدني مضطراً للوقوف في هذا العمود أمام قضية مثيرة، بعد أن قدّم نادي المحامين بالمغرب، عبر القنوات الدبلوماسية، شكاية جنائية إلى النيابة العامة التركية ضد السيدة توكل كرمان، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، ومن هنا المفارقة العجيبة، بتهم التحريض على الإرهاب والعنف والإساءة إلى رئيس دولة أجنبية. تتجاوز القضية في تقديري بعدها القانوني إلى أسئلة عميقة تتعلق بحدود الحرية، وبمفهوم السلام ذاته، وبمآلات الخطاب السياسي حين يتحوّل من مناداة بالتغيير إلى دعوة للفوضى والخراب.
فتوكل كرمان، التي حازت الجائزة سنة 2011 تقديراً لدورها في ما سُمّي حينها “الربيع اليمني”، قدّمت نفسها في صورة المناضلة من أجل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق النساء، غير أن التجربة أثبتت أن حماسة توكل كرمان ليس لها سقف أخلاقي ولا وعي تاريخي لذلك تحوّلت بسهولة إلى أداة تخريب. واليمن، البلد الذي كانت تنتمي إليه رمزياً، صار اليوم جرحاً نازفاً لا يلتئم، بفعل من أفرطوا في الخطابة والتحريض ونسوا أن بناء الأوطان يحتاج أكثر من هدم الأنظمة. والآن، يبدو أن هذه السيدة، بعد أن ساهمت في إشعال نار لم تنطفئ في وطنها، تسعى لتصدير لهجتها التحريضية إلى بلدان أخرى، ومنها المغرب بلد الأمن والاستقرار والمؤسسات.
إن خطاباتها الأخيرة التي تستهدف المملكة المغربية ليست سوى جزء من هذا الانزلاق الذي يجعل من بعض الحائزين على جوائز عالمية أدوات في لعبة سياسية أكبر منهم. فهي تستخدم منبر “نوبل” كدرع رمزي لتبرير خطاب عدواني ضد دولة لم تعتدِ عليها يوماً.. لا أحد يمنع توكل كرمان من إبداء رأيها أو نقدها، لكن حين يتحوّل الرأي إلى تحريض مباشر على الفوضى في سياقات تتعلق بدولة ذات سيادة، يصبح الحديث عن حرية التعبير مجرد غطاء لغواية الفوضى. إنّ التحريض على العنف ليس وجهاً من وجوه الحرية، بل نقيضها التام، لأن الحرية الحقيقية هي التي تصون الحق في الاختلاف دون أن تفتح أبواب الخراب.
ما قام به نادي المحامين بالمغرب خطوة قانونية تعيد الاعتبار لمفهوم السيادة في زمنٍ صار فيه التهجم الإلكتروني ممارسة يومية باسم النضال. من حقّ المغرب، كدولة، أن يدافع عن صورته ورموزه ومؤسساته ضد أي تحريض أو إساءة، خصوصاً حين تصدر من شخصية تحمل صفة دولية وتُحسب على “حملة السلام”. فالسلام ليس شعاراً يُرفع على المنصات ولا وساماً يُعلّق على الصدور، بقدر ما هو سلوك ومسؤولية وموقف أخلاقي.
من يُحرّض على العنف لا يمكنه أن يظل ممثلاً للسلام، ومن ينشر خطاب الكراهية لا يليق به أن يتحدث باسم الإنسانية.
كصحافي مغربي، أعتقد أن استدعاء البعد الأخلاقي في هذه القضية أمر جوهري، فالمشكلة لا تتعلق فقط بخرق قانون أو بعبارات مسيئة، بل بفقدان الحسّ بالمسؤولية، فكيف يمكن لمن تدّعي الدفاع عن السلم أن تسمح لنفسها بتغذية الكراهية ضد دولة آمنة؟
إن احترام حرية التعبير لا يعني السكوت عن التحريض على العنف والتخريب، لا أحد فوق المساءلة، حتى وإن حمل لقب “نوبل للسلام”. الجائزة ليست صكّ براءةٍ دائم، ولا حصانة ضد المحاسبة، بل عهدٌ أخلاقي يلتزم صاحبه بمقتضاه بأن يكون صوتاً للسلام لا للعداء. وإذا ثبت أنّ توكل كرمان تجاوزت هذا العهد، فإن من حقّ المجتمع الدولي أن يعيد النظر في من يحمل رمزية هذه الجائزة.
ما تحتاجه منطقتنا اليوم ليس أصواتاً تثير الأحقاد والضغائن، إذ لا يمكن أن نبني مستقبلاً آمناً بألسنةٍ تشعل النيران في هشيم الوعي العام. ليس السلام وهماً غربياً ولا شعاراً سياسياً، بل هو ثمرة لثقافة الحوار والاحترام والمسؤولية. ومن يفرّط في هذه القيم تحت أي مسمى يفرّغ جائزة نوبل من معناها الإنساني العميق.
لذلك يجب سحب الجائزة عن توكل كرمان لإعادة الاعتبار لمفهوم السلام الذي أفرغته من محتواه. لقد آن الأوان لتدرك هذه السيدة أنّ التحريض على العنف لا يصنع ديمقراطية، وأنّ الكراهية ليست طريقاً إلى الحرية. نحن في المغرب نؤمن بالحوار والانفتاح، لكننا نرفض أن يكون السلام رهينة في يد من يتاجر به. لقد خربت كرمان بلادها بكلماتها، ولن نسمح لها بتخريب أوطان الآخرين بذات اللغة.